انتقل إلى المحتوى

مستخدم:د. محمد فرح متولي/دكتوراه أم دكتوراة

من ويكي الجامعة, مركز التعليم الحر
متى تنتهي المباراة بين "دكتوراه" و"دكتوراة"؟!

كثر الحديث حول مدى صحة كتابة كلمة "دكتوراة" بالتاء المربوطة، أو بالهاء "دكتوراه"، والحق أن ما لفت نظري؛ جزم كل فريق بصحة رأيه، وحكمه بعدم صحة رأي الفريق الآخر، وهذا ما وددت أن أفنده هنا في عجالة.

لقد صدر في عام 2022 بيان من مجمع اللغة العربية الأردني ردًا على أحد السائلين عن وجه الصواب في تلك الكلمة؛ هل بالهاء؟ أو بالتاء المربوطة؟ فكان رد البيان -إجمالًا- أن تُكتب بالتاء المربوطة "دكتوراة"، وأن هذا هو وجه الصواب. وأرد -تفصيلًا- على ما جاء في البيان كما سيأتي:

1- احتج البيان بأن التاء موجودة في اللفظ الأجنبي، وأنها أصيلة فيه ومن أبرز أصواته، ولا يجوز حذفها. أقول نعم، الكلمة بالإنجليزية (Doctorate)، والتاء مثبتة فيها كتابةً ونطقًا. لكن البيان أغفل أن المصدر الأول للأذن العربية التي تلقت هذه الكلمة الدخيلة سَماعًا، ومن ثم تغلغلت في الثقافة العربية؛ كان من خلال الكلمة الفرنسية (Doctorat)، وذلك إبان الاح-تلال الفرنسي لمصر والشام (الذي يشمل الأردن)، والتاء في هذه الكلمة الفرنسية مُثبتة كتابةً فقط، لكنها غير مسموعة نطقًا، حتى أنه لا صوت للهاء نفسها في آخر الكلمة، حيث ينطقها الفرنسيون "دكتورا". إذًا التاء ليست موجودة في اللفظ الأجنبي (الفرنسي) الذي أُخذت عنه الكلمة وتلقفتها الآذان العربية بنطقها الفرنسي. وبحسب علم التأثيل Etymology (أو علم أصول الكلمات)؛ فإن أصل هذه الكلمة نابع من الفرنسية القديمة "doctour" الذي جاء من اللاتينية في العصور الوسطى "docere". وأن اللاحقتان في الإنجليزية (-ate)، وفي الفرنسية (-at) قد أضيفتا لاحقًا. فالنطق الأصلي القديم للكلمة بغير هاء ولا تاء. وعلى هذا فقد أخطأ المجمع الأردني في هذا الاحتجاج، لأنه لم يحدد اللغة التي اعتمدها مصدرًا أجنبيًّا للكلمة، سواء الإنجليزية أو الفرنسية، واكتفى بقوله "اللفظ الأجنبي". وكان له أن يسمح بالوجهين تاءً أو هاءً، باعتبار أن الكلمة لا أصل لها في اللغة العربية، وذلك ما يفعله علماء اللغة الأجانب؛ إذ يرجعون إلى أصل الكلمة، ويحافظون على خصوصياتها باعتبارها دخيلة.

2- يرى البيان أن إثبات التاء في الكلمة يجعلها معربة لتقبل الحركات والتنوين عليها. أقول وما الداعي إلى جعلها معربة بالتاء؟ في حين أننا يمكننا نطقها بالهاء معربةً بإحدى الحركات الثلاث (دكتوراهُ هَ هِ), ثم ما المشكلة إذا بُنيت على الوقف (دكتوراهْ)؟ إننا لسنا في حاجة إلى أن نتكلف لنجعلها معربة، فيكفى أنها اسم علم مبني، وإعرابه مقدر بحسب موضعه في الجملة، وإذا استغنينا عن ختم الكلمة بحرف الهاء فلا حرج لأنه غير منطوق ولا مكتوب في لغته الأصلية، فنقول (دكتورا).

3- يدّعي البيان أن السبب في ختمها بالهاء؛ خوف البعض من الالتباس بجمع المؤنث السالم (دكتورات)، وأن التاء المربوطة تدفع هذا اللبس. أقول والهاء أدفع من التاء برمتها لهذا اللبس، ثم إن السبب في ختمها بالهاء ليس هذا الخوف المُدعَى؛ وإنما لإظهار انعكاس الطبيعة الصوتية الأصلية للكلمة المعربة، والتي تنتهي بصوت غير صامت في اللغة الأجنبية (الفرنسية)، مما يجعل استخدام الهاء أكثر انسجامًا مع الصوت الأصلي. كما أن الهاء في(دكتوراه) تكاد تكون صُوْرية، لأننا -وإن أثبتناها كتابة- فغالبًا نسقطها عند الوصل، فنقول "حصل فلان على شهادة الدكتورا في التربية"، فكأن وجود الهاء كعدمها. كما أن الهاء تُستخدم في نهاية عديد من الكلمات العربية الأصيلة والمعربة للإشارة إلى الأسماء المؤنثة دون إحداث لبس، وذلك عند الوقف عليها، مثل "قهوة"، "ومكتبة"، "ومدرسة".

4- يزعم البيان أن تعريب الكلمة بالهاء "دكتوراه" يجعل لفظها عسيرًا. أقول وما الرأي في هذه الكلمات: رُماه - رُماة، وقُضاه - قضاة، بشرَاه، وزيداه؟ وعندما نقرأ قوله تعالى: "لا تضارّ.."، ونقارنه بقولنا: "دكتوراه في كذا"، فأيهما أثقل في النطق؟ ورغم أن "تضارّ" ونحوها مطّرد في العربية؛ لكننا نتحدّث هنا عن كلمة حديثة فرضت نفسها على اللسان العربي وشاعت في الثقافة العربية، في زمن اعتاد فيه هذا اللسان العربي على التلفّظ بكلمات من قبيل (مبابي - موْدْرتش - فيرمينيو - رونالْدو)، فإذًا لا تصعب عليه كلمة (دكتوراهْ)، لا وقفًا ولا وصلًا.

5- زعم البعض أن الكلمة مؤنثة، وأن التاء علامة التأنيث. أقول أن الكلمة في الفرنسية مذكرة وليست مؤنثة، ونعم لا يمنع أصلها الأعجمي من استشعار التأنيث فيها، ووضع علامة له، لكن لا يكون ذلك لأجل أن نعربها، ونضيفها، ونضع عليها تنوينًا، في مقابل أن نهدم معالمها التي وفدت إلينا بها.

6- وإن كانت هذه الخطوة صعبة؛ فكان أحرى بنا بدلًا من أن نتناطح بالآراء حول صحة كتابة كلمة دخيلة نسمي بها إحدى الشهادات، أن نضع نظيرًا عربيًا أصيلًا لها، كما اقترح البعض بديل "العالِميَّة"، واقترح آخرون "العالِميَّة العالية".

7- ظلت هذه الكلمة منذ دخولها العربية من البوابة الفرنسية أكثر من قرنين حتى الآن لم يتعرض لها أحد من صناديد اللغة العربية، وأخص منهم الأفذاذ المصريون من وقتئذ، أمثال شيخ أدباء العربية الرافعي، والأديب العقاد، وطه حسين الحائز على أكثر من "دكتوراه"، وشيخ العربية محمود محمد شاكر، وتلميذه المقرب الأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي [مرفقة صورته]، أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب - جامعة حلوان؛ جميعهم لم يتعرض للحديث عن مثل هذا الجدل الدائر حول "دكتوراه" و"دكتوراة"، وهم من هم في صفوف أهل اللغة العربية؟! وقد أرفقت بعضًا من كتاباتهم التي نرى فيها "دكتوراه" واضحة بصورتها الشائعة منذ زمن.

8- إذا سمع المصري أو الشامي قديمًا وقت الاحتلال الفرنسي هذه الكلمة بتاء منطوقة في آخرها "دكتوراة"، فما الداعي لأن تظل هذه الكلمة تكتب حتى يومنا هذا بالهاء "دكتوراه"؟!

9- لا أريد أن يفهم أحد من كلامي أن الصواب هاء، والتاء خطأ، أو العكس، فالكلمة لا تخرج عن كونها لفظ دخيل، يجوز فيه الوجهان "دكتوراة" و"دكتوراه". وإن كنت أفضلها بالهاء؛ فهذا لا يجعلني أسفه موقف من يكتبها بالتاء. فلا يقول أحد في هذا المقام: اكتب.. ولا تكتب. وقل.. ولا تقل.

10- وللخروج من هذا الجدل الدائر الذي قد لا ينتهي؛ وسعيًا نحو وضع معيار يلزم الجميع بوجه واحد من أوجه الخلاف، بهدف توحيد اللغة المستخدمة؛ ينبغي على كل مؤسسة، أو كل جامعة، أن تضع لنفسها مدونة لغوية، أو مدونة مفاهيمية، تدون فيها جميع المفاهيم والألفاظ التي يقع حولها خلاف، وتعيّن فيها وجهًا واحدًا موحَّدًا يُتفق عليه، ليستخدمه كل الأفراد المعنيين في المكان. وبهذا يلتزم الجميع، ليس من باب الحكم والتحكم، ولكن من باب التنظيم.